شغل سؤال “ماذا بعد؟” العالم كلّه إثر جائحة كورونا التي بلغ أثرها القطاعات كافّةً، لا سيّما بعد الإقفال التامّ والتزام المنازل. ومن صور هذا السؤال التي شغلت الأهالي في العالم العربيّ، تلك المتعلّقة بمصير العام الدراسيّ لأولادهم: ماذا عن مصير الطلّاب؟ وهل انتهى العام الدراسيّ قبل أن يبدأ؟ ما البديل؟ هنا، انطلقت تجارب مختلفة، وبدأت ترد إلى مسامعنا مصطلحات جديدة غزت مجتمعنا العربيّ مثل “التعليم online”، والتدريس الإلكترونيّ، والتعليم عن بعد.
كما رأينا مصطلحات جديدة، فقد عشنا تجربة غير مألوفة، مبهمة في بعض جوانبها، لكنّها _على حداثتها بالنسبة إلينا_ كانت الملاذ الوحيد والحلّ الأنسب لإنقاذ العام الدراسيّ. كرّس لها الطاقم التعليميّ الكثير من الوقت، وأعدّت المؤسّسات التعليميّة الأبحاث، وأنجزت التدريبات، فمنها ما كان منظّمًا مدروسًا مرتكِزًا على تجارب خارجيّة موثّقة، ومنها ما كان عشوائيًّا قيد التجربة، وبعضها كان دون المستوى المطلوب. كلّ ذلك يعتمد على قدرات البلد، والنظم التعليميّة المتّبعة فيه، بالإضافة إلى قدرات المدارس، ومراكز التعليم. في لبنان أيضًا كانت لنا عدّة تجارب في هذا المجال. لكلّ تجربة جديدة ميّزاتها وعوائقها، وسلبيّاتها ونقاط قوّتها.
سأتحدّث في هذا المقال عن واحدة من التجارب الفريدة التي اختبرناها عن قرب في أحد المراكز المتخصّصة بالتدخّل المبكّر الذي يُعنى بذوي الاحتياجات الخاصّة في مرحلة الطفولة المبكّرة في لبنان. بوصفنا جزءًا من أفراد الهيئة التعليميّة، كانت لنا تجربتنا الخاصّة في هذا المجال التي ميّزها عن غيرها صغر عمر المستفيدين، وحاجاتهم الخاصّة، واختلافها.
من هي الفئة المستفيدة؟
هم الأطفال الصغار، تحت سنّ السادسة، الذين تمّ تحديدهم على أنّهم يعانون من الإعاقة، أو التأخّر في النموّ. ويأتي دور التدخّل المبكّر لتفادي تفاقم حدّة الصعوبات لدى هؤلاء الأطفال، والـتخفيف من تأثيرها على نوعيّة حياتهم في المستقبل، مع تعدّد اختلافاتهم: توحّد، شلل دماغيّ، اضطرابات جينيّة، أمراض وراثيّة، أمراض استقلابيّة، مشاكل سلوكيّة، اضطرابات حسّيّة… إلخ.
في المجمل، أغلب هؤلاء الأطفال يواجهون تحدّيات صحّيّةً، أو حركيّةً، أو ذهنيّةً، لذلك فإنّ نجاح الخطّة العلاجيّة الفرديّة يرتكز على تغطية هذه التحدّيات من كافّة الجوانب: الطبّيّة، والعلاجيّة، والنفسيّة، والاجتماعيّة، والدعم الأسريّ.
هكذا، كان لا بدّ لنا من التركيز على تدريب الأطفال على المهارات الأساسيّة، وتغطية احتياجات الأطفال العلاجيّة بالتوازي، عن طريق فريق متخصّص بالتدخّل المبكّر، مؤلّف من طبيب أعصاب أطفال، ومربّين متخصّصين، ومعالجين من الاختصاصات كافّةً (علاج فيزيائيّ، وعلاج وظيفيّ، وعلاج نفس حركيّ، وعلاج نفسيّ، وعلاج نطق ولغة، ومتخصّصين في التعديل السلوكيّ، وغيرهم)، وذلك للبحث عن أسس التدخّل والعلاج عن بعد، ولمعرفة السلبيّات والإيجابيّات وكلّ ما يتعلّق بهذه المحاولة لخدمة الهدف الأساسيّ للتدخّل المبكّر بصورة تناسب كلّ طفل باختلافه وتميّزه.
في ظلّ الظروف الصعبة التي يمرّ بها لبنان، وضمن إمكاناتنا المتواضعة، بدأنا رحلة البحث عن طرق جديدة لمساعدة هذه الفئة من الأطفال، لكنّنا ارتطمنا خلال سعينا بعوائق مختلفة، بيد أنّها لم تطفئ عزيمتنا.
التحدّيات
كان أوّل التحدّيات انقطاع التيّار الكهربائيّ المتكرّر، وسوء شبكة الإنترنت. لذلك، كان من الصعب الالتزام بدوام عمل محدّد، فكان علينا التأقلم مع مواعيد وجود التيّار الكهربائيّ أو جودة الشبكة. كنّا نعقد اجتماعات الفريق على مراحل، أو حتّى خلال الليل حسب توفّر الأشخاص، وتزامن التغطية حسب أماكن سكنهم.
العثور على مراجع علميّة موثوقة حول التعليم عن بعد كان أيضًا من التحدّيات. جرت الاستعانة بمكتبات بعض الجامعات اللبنانيّة الإلكترونيّة. وجدنا بعض المقالات الأجنبيّة التي تتحدّث عن تقنيّات التعليم والعلاج عن بعد، لكنّ ذلك لم يكن كافيًا، بسبب مشكلة ثانية، وهي عدم إمكانيّة تطبيق هذه التقنيّات بحالتها المذكورة في المراجع الأجنبيّة على أرض الواقع لدينا، لعدم توافقها في عدّة نقاط مع بيئتنا الاجتماعيّة والثقافيّة، ولأنّها لا تراعي بدائيّة الموارد والبنية التحتيّة في بلدنا.
كان من ضمن الأمور التي يجب مراعاتها عدم إلمام الطاقم التعليميّ والعلاجيّ بتقنيّات التعليم، أو العلاج عن بعد، ولزوم توفير حاسوب أو لوح ذكيّ لكلّ طفل في ظلّ ظروف معيشيّة متواضعة لبعض الأسر، والصعوبات المادّيّة والاجتماعيّة لأغلب الأسر المستفيدة من هذه الخدمة، والمستوى التعليميّ الخجول لعدد من الأسر المستفيدة ممّا يصعّب عمليّة التواصل والشرح، وعدم إلمام أغلب الأهل بكيفيّة تشغيل تطبيقات التواصل عن بعد أو استعمالها، وعدم وثوق الأهل بهذا النوع من التعليم (التعليم عن بعد)، وسوء الظنّ به من حيث القدرة على إيصال المعلومات مقارنةً بالحضور الشخصي، وصغر سنّ الفئة المستفيدة التي تتطلّب وجود الأهل معهم في أثناء الحصّة ممّا يتعارض مع أوقات عملهم في بعض الأحيان، وضرورة الاعتماد على الأهل في تنفيذ بعض التقنيّات العلاجيّة على الرغم من عدم إلمامهم بها، وصعوبة إجراء بعض الاختبارات التي تتطلّب الحضور الشخصيّ للطفل خاصّةً في ما يتعلّق ببعض التقويمات العلاجيّة.
لذلك، كان علينا إجراء العديد من التعديلات على النماذج الأجنبيّة من هذه التقنيّة لتتناسب مع واقعنا. وبإمكانيّاتنا المتواضعة، كان من الصعب إيجاد حلول لأغلب هذه التحدّيات. لكن رغم الصعوبات، استمرّ الفريق بالبحث عن بدائل، وعن طرق استعاضة في بعض الحالات، فخضع لتدريبات أساسيّة عديدة خاصّة في المجال التقنيّ الإلكترونيّ والتواصل عن بعد. ثمّ بدأ بتنفيذ آليّات، واختبار طرائق مختلفة من التدخّل، وقد استمرّ بإجراء التعديلات عليها بعد فشل قسم منها، وعدم الرضا عن نتائج القسم الآخر، حتّى توصّل في النهاية إلى الأسلوب الأمثل في تنفيذ هذه التقنيّة لهذه المرحلة، مراعيًا متطلّبات التدخّل العلاجيّ والتعليميّ، وفي الوقت نفسه متطلّبات الحياة اليوميّة للأسر المستفيدة، وتسهيل التحدّيات التي كانت تعيق نجاح هذا التدخّل.
الإجراءات التنفيذيّة
وضعنا جدولًا منظّمًا بمواعيد الحصص مع مراعاة احتمال التغيير المفاجئ حسب المستجدّات، وحدّدنا أوقات الجلسات لكلّ طفل بحسب توقيت توفّر الكهرباء، أو بحسب توقيت انتهاء الأهل والأخوّة من استخدام الإنترنت للعمل أو للدرس.
قمنا بتأمين بعض الألواح الذكيّة للأطفال الأكثر حاجةً، وتمرين الأهل على استعمالها إلى بعض التطبيقات المعتمدة مثل Skype، وZoom.
ركّزنا لدى وضع الأهداف على اهتمامات الأسر وأولويّاتها في التعامل مع أطفالها خلال العزل المنزليّ، وعلى تزويدهم بأساليب للتعامل مع احتياجات طفلهم في هذه الفترة، وتعزيز قدراته في الوقت نفسه.
اختُصرت الخطط الفرديّة لتحقّق الأهداف العلاجيّة والتعليميّة الأساسيّة التي يمكن تنفيذها عن بعد، وأُرجئ العمل على الأهداف التي تحتاج تدخّلًا مباشرًا. وحاولنا جمع أفراد الفريق الذين لديهم تدخّل مباشر مع الطفل في كافّة الجلسات المتعلّقة به، فاختصرنا بذلك الوقت، وعدد الجلسات، فزادت فعاليّة تنفيذ الخطّة، وتنسيق الفريق فيما بينهم ومع الأهل. كذلك، توطّدت العلاقة بين الأهل والفريق، وزادت الثقة بينهم ممّا ساهم في نجاح الجلسات.
أنواع الجلسات
النوع الأوّل كان الجلسات المباشرة مع الطفل، أي أن يكون المعالج/المعلّم أمام الحاسوب من طرف، والطفل من الطرف الآخر، ويكون التواصل بينهما مباشرًا، والتدخّل شبيهًا بالحصص الفرديّة المتزامنة، وذلك طبعًا مع وجود الأهل لصغر سنّ الأطفال، وفي بعض الأحيان كان يُطلب من الأهل مساعدة الأطفال على تنفيذ التمرينات، أو إعادة شرح التعليمات لهم.
النوع الثاني كان ينفَّذ بصورة خاصّة مع الأطفال الصغار، أو في حال صعوبة فهم الأطفال الأكبر سنًّا للتعليمات، أو لأسباب أخرى تمنع التواصل معهم مباشرةً، فكانت تعطى التعليمات والتمرينات للأهل مع تفاصيل تنفيذها، وكان يقع على عاتقهم تنفيذها مع أطفالهم، وتصوير النتيجة بالفيديو ليتمكّن الفريق من مساعدتهم في تنفيذها، والتصحيح إن استدعت الحاجة.
النوع الثالث من الجلسات كان جلسات دعم الأهل، وكانت تُجرى مع الفريق كاملًا، أو مع المتخصّص النفسيّ للإجابة على تساؤلات الأهل حول حالة طفلهم، أو لدعمهم هم نفسيًّا لتخطّي عبء هذه المرحلة.
للحفاظ على جودة الحصص، كانت تُجرى، إلى جانب ذلك كلّه، اجتماعات دوريّة مكثّفة للفريق لتقييم الجلسات التي كانت تسجّل وتحفظ لهذا الهدف، ويجري نقاش نقاط الضعف والقوّة في تنفيذها، فيحاول الفريق إيجاد أفكار للتعديل على الجلسات التالية، وتحديث الأهداف حسب متطلّبات الأهل المستجدّة وأولويّاتهم.
نجاحات ملموسة
حقّقت هذه التجربة نجاحات عديدةً، وكانت نتائجها في بعض الحالات تفوق التوقّعات، فكان القرار بالتركيز على إيجابيّات هذه التجربة التي لم تكن خجولة، وعلى الاستفادة منها في المضيّ قدمًا. بذلك، وتماشيًا مع الظروف المفروضة وبالإمكانات المتوفّرة، جرى إنقاذ العام الدراسيّ وبرنامج الأطفال العلاجيّ بأقلّ الأضرار، والمحافظة على قدراتهم الجسديّة والفكريّة من التراجع ضمن الشروط الصحّيّة المفروضة بالإضافة إلى العديد من الإيجابيّات الأخرى، وضمنها:
- اختصار الوقت والمسافة.
- حثّ الأهل والطلّاب، ومساعدتهم على مواكبة التطوّر التكنولوجيّ.
- المرونة في اختيار توقيت الحصص حسب متطلّبات وظروف المعلّم والمتلقّي.
- الاستمرار بتلقّي العلاجات اللازمة، ومساهمة الأهل في تنفيذها ممّا حدّ من تراجع الحالة الصحّيّة للأطفال.
- إمكانيّة جمع عدد من المتخصّصين والمعلّمين في الحصّة العلاجيّة، أو التعليميّة الواحدة، ما زاد من ثقافة الفريق المتابع، وإلمامهم أكثر بقدرات الطفل وكيفيّة تحفيزها.
- زيادة التنسيق المباشر بين المتخصّصين والمعلّمين فيما يخصّ حالة الأطفال، ممّا زاد من فاعليّة الخطط الفرديّة.
- معرفة الأهل تفاصيل قدرات طفلهم عن كثب، ومشاركتهم المباشرة في تطويرها بمساندة الفريق المتابِع.
- الولوج إلى تفاصيل حياة الأسرة مع طفلهم، وهو ما ساعد في تعديل خطط التدخّل لتشمل الأسرة جميعها، لا الطفل وحده، فقد توسّعت لتشمل محيطه أيضًا.
- حثّ المعلّمين والمعالجين على الابتكار، وعصف الأفكار لخلق جوّ تفاعليّ محفِّز مع الأطفال خلال الحصص.
- إمكانيّة تسجيل الحصص ممّا يسمح للأطفال بإعادة مشاهدة الحصّة في وقت لاحق، لا سيّما في حال عدم تمكّنهم من حضورها مباشرةً في وقتها المحدّد.
- تعزيز العمل على مهارات الحياة اليوميّة، واستقلاليّة الطفل ضمن بيئة الطفل الطبيعيّة.
- زيادة الوقت الذي يجمع الأهل بأطفالهم خلال النهار بطريقة مجدية.
- إحساس الأهل بتطوّر قدرات طفلهم بصورة مباشرة بعد مشاركتهم الشخصيّة في هذا التدخّل، وهو ما زاد ثقتهم بهذه التقنيّة، وفتح آفاقًا جديدة لديهم فيما يتعلّق بمستقبل طفلهم كانوا قد تجاهلوها، أو تجنّبوا التفكير بها سابقًا.
- كسر الروتين التعليميّ، واكتساب الأطفال لمهارات تقنيّة جديدة تتعلّق بالتعلّم عن بعد.
لذلك كلّه، قرّر الفريق الاستمرار باعتماد هذه الطريقة مع بعض الأسر حتّى بعد انتهاء الحجر المنزليّ، لما أظهرته من نجاحات في مجالات مختلفة على الرغم من أنّ نتائجها لم تكن مرضيةً في بعض الحالات، وعلى الرغم من فشلها كلّيًّا في بعض الحالات الأخرى، فإنّ ذلك حدث لأسباب متعلّقة بظروف العائلات الشخصيّة، أو بالمستوى الثقافيّ، أو لأسباب بيئيّة، أو تقنيّة محضة.
وقد أُدرجت هذه الطريقة رسميًّا ضمن برنامج الخدمات المعتمد لدينا في متابعة الأسر والأطفال، وثمّة أنواع عديدة من التدخّل والخدمات التي أصبحت تعتمِد كلّيًّا على طريقة التدخّل عن بعد، أو يجري دمجها مع المتابعة المباشرة حسب متطلّبات، وامتيازات كلّ أسرة منفردة.
مصدر المقالة من مجلة منهجيات